فصل: تفسير الآية رقم (199):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فائدة لغوية:

الإفاضة هنا: الخروج بسرعة وأصلها من فاض الماء إذا كثر على ما يحويه فبرز منه وسالَ؛ ولذلك سموا إحالة القِداح في المَيْسر إفَاضَةً والمجيلَ مُفيضًا، لأنه يُخْرِج القِدَاح من الرِّبَابَة بقوة وسرعة أي بدون تَخَيُّر ولا جَسَ لينظر القدح الذي يخرج، وسمَّوا الخروج من عرفة إفاضة لأنهم يخرجون في وقت واحد وهم عدد كثير فتكون لخروجهم شدة، والإفاضة أطلقت في هاته الآية على الخروج من عرفة والخروج من مزدلفة.
والعرب كانوا يسمون الخروج من عرفة الدَّفْع، ويسمون الخروج من مزدلفة إفاضة، وكلا الإطلاقين مجاز؛ لأن الدفع هو إبعاد الجسم بقوة، ومن بلاغة القرآن إطلاق الإفاضة على الخروجين؛ لما في أفاض من قرب المشابهة من حيث معنى الكثرة دون الشدة. ولأن في تجنُّب دَفَعْتُم تجنبًا لتوهم السامعين أن السير مشتمل على دفع بعض الناس بعضًا؛ لأنهم كانوا يجعلون في دفعهم ضَوْضَاء وجلبة وسرعةَ سير فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في حجة الوداع وقال: «ليس البِرُّ بالإيضَاع فإذا أفضتم فعليكم بالسَّكينة والوَقَار». اهـ.

.تفسير الآية رقم (199):

قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما قبح عليهم ما كانوا عليه من المخالفة في الوقوف بالنسبة إلى الضلال بالجملة الاسمية مؤكدة بأنواع التأكيد وكان ما مضى من ذكر الإفاضة ليس بقاطع في الوجوب أشار لهم إلى تعظيم ما هداهم له من الموافقة بأداة التراخي فقال عاطفًا على ما تقديره: فلا تفيضوا من المشعر الحرام الإفاضة التي كنتم تخالفون فيها الناس دالًا على تفاوت الإفاضتين وبعد ما بينهما على وجه معلم بالوجوب: {ثم} أي بعد طول تلبسكم بالضلال أنزلت عليكم في هذا الذكر الحكيم الذي أبيتموه وهو عزكم وشرفكم لا ما ظننتم أنه شرف لكم بالتعظم على الناس بمخالفة الهدى في الوقوف بالمزدلفة والإفاضة منها {أفيضوا} أي إذا قضيتم الوقوف. وقال الحرالي: لما كان للخطاب ترتيب للأهم فالأهم كما كان للكيان ترتيب للأسبق فالأسبق كان حرف المهلة الذي هو {ثم}، يقع تارة لترتيب الكيان وتارة لترتيب الإخبار فيقول القائل مثلًا: امش إلى حاجة كذا تقديمًا في الخبر الأهم ثم ليكن خروجك من موضع كذا، فيكون السابق في الكيان متأخرًا بالمهلة في الإخبار، فمن معنى ذلك قوله انتهى. ثم أفيضوا أيها الحمس! {من حيث أفاض الناس} أي معظمهم وهو عرفات، إلى المشعر الحرام لتبيتوا به، وروى البخاري في التفسير عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمعون الحمس وكان سائر العرب يقفون بعرفات فلما جاء الإسلام أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله سبحانه وتعالى: {ثم أفيضوا}» الآية. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}:

.قال الفخر:

فيه قولان:
الأول: المراد به الإفاضة من عرفات، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فالأكثرون منهم ذهبوا إلى أن هذه الآية أمر لقريش وحلفائها وهم الحمس، وذلك أنهم كانوا لا يتجاوزون المزدلفة ويحتجون بوجوه أحدها: أن الحرم أشرف من غيره فوجب أن يكون الوقوف به أولى وثانيها: أنهم كانوا يترفعون على الناس ويقولون: نحن أهل الله فلا نحل حرم الله وثالثها: أنهم كانوا لو سلموا أن الموقف هو عرفات لا الحرم، لكان ذلك يوهم نقصًا في الحرم ثم ذلك النقص كان يعود إليهم، ولهذا كان الحمس لا يقفون إلا في المزدلفة، فأنزل الله تعالى هذه الآية أمرًا لهم بأن يقفوا في عرفات، وأن يفيضوا منها كما تفعله سائر الناس، وروي أن النبي عليه الصلاة والسلام لما جعل أبا بكر أميرًا في الحج أمره بإخراج الناس إلى عرفات، فلما ذهب مر على الحمس وتركهم فقالوا له: إلى أين وهذا مقام آبائك وقومك فلا تذهب، فلم يلتفت إليهم ومضى بأمر الله إلى عرفات ووقف بها، وأمر سائر الناس بالوقوف بها، وعلى هذا التأويل فقوله: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} يعني لتكن إفاضتكم من حيث أفاض سائر الناس الذين هم واقفون بعرفات، ومن القائلين بأن المراد بهذه الآية الإفاضة من عرفات من يقول قوله: {ثُمَّ أَفِيضُواْ} أمر عام لكل الناس، وقوله: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} المراد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فإن سنتهما كانت الإفاضة من عرفات، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف في الجاهلية بعرفة كسائر الناس، ويخالف الحمس، وإيقاع اسم الجمع على الواحد جائز إذا كان رئيسًا يقتدي به، وهو كقوله تعالى: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} [آل عمران: 173] يعني نعيم بن مسعود {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} [آل عمران: 173] يعني أبا سفيان، وإيقاع اسم الجمع على الواحد المعظم مجاز مشهور، ومنه قوله: {إِنَّا أنزلناه في لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1].
وفي الآية وجه ثالث ذكره القفال رحمه الله، وهو أن يكون قوله: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} عبارة عن تقادم الإفاضة من عرفة وأنه هو الأمر القديم وما سواه فهو مبتدع محدث كما يقال: هذا مما فعله الناس قديمًا، فهذا جملة الوجوه في تقرير مذهب من قال: المراد من هذه الإفاضة من عرفات.
القول الثاني: وهو اختيار الضحاك: أن المراد من هذه الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر وقوله: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ} المراد بالناس إبراهيم وإسماعيل وأتباعهما، وذلك أنه كانت طريقتهم الإفاضة من المزدلفة قبل طلوع الشمس على ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، والعرب الذين كانوا واقفين بالمزدلفة كانوا يفيضون بعد طلوع الشمس، فالله تعالى أمرهم بأن تكون إفاضتهم من المزدلفة في الوقت الذي كان يحصل فيه إفاضة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام واعلم أن على كل واحد من القولين إشكالًا:
أما الإشكال على القول الأول: فهو أن قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} يقتضي ظاهره أن هذه الإفاضة غير ما دل عليه قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عرفات} [البقرة: 198] لمكان {ثُمَّ} فإنها توجب الترتيب، ولو كان المراد من هذه الآية: الإفاضة من عرفات، مع أنه معطوف على قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عرفات} كان هذا عطفًا للشيء على نفسه وأنه غير جائز ولأنه يصير تقدير الآية: فإذا أفضتم من عرفات، ثم أفيضوا من عرفات وإنه غير جائز.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: هذه الآية متقدمة على ما قبلها، والتقدير: فاتقون يا أولي الألباب، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم، ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلًا من ربكم، فإذا أفضتم من عرفات فذكروا الله، وعلى هذا التريتب يصح في هذه الإفاضة أن تكون تلك بعينها.
قلنا: هذا وإن كان محتملًا إلا أن الأصل عدمه، وإذا أمكن حمل الكلام على القول الثاني من غير التزام إلى ما ذكرتم فأي حاجة بنا إلى التزامه.
وأما الإشكال على القول الثاني: فهو أن القول لا يتمشى إلا إذا حملنا لفظ {من حيث} في قوله: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} على الزمان، وذلك غير جائز، فإنه مختص بالمكان لا بالزمان.
أجاب القائلون بالقول الأول: عن ذلك السؤال بأن {ثُمَّ} هاهنا على مثال ما في قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 12، 13] إلى قوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ} [البلد: 17] أي كان مع هذا من المؤمنين، ويقول الرجل لغيره: قد أعطيتك اليوم كذا وكذا، ثم أعطيتك أمس كذا فإن فائدة كلمة {ثُمَّ} هاهنا تأخر أحد الخبرين عن الآخر، لا تأخر هذا المخبر عنه عن ذلك المخبر عنه.
وأجاب القائلون بالقول الثاني: بأن التوقيت بالزمان والمكان يتشابهان جدًا فلا يبعد جعل اللفظ المستعمل في أحدهما مستعملًا في الآخر على سبيل المجاز.
وأما قوله: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} فقد ذكرنا أن المراد من {الناس} إما الواقفون بعرفات وإما إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وأتباعهما، وفيه قول ثالث وهو قول الزهري.
أن المراد بالناس في هذه الآية: آدم عليه السلام، واحتج بقراءة سعيد بن جبير {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} وقال: هو آدم نسي ما عهد إليه، ويروى أنه قرأ: {الناس} بكسر السين اكتفاء بالكسرة عن الياء، والمعنى: أن الإفاضة من عرفات شرع قديم فلا تتركوه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

الذي عليه جمهور المفسرين أن ثم للتراخي الإخباري للترقى في الخبر وأن الإفاضة المأمور بها هنا هي عين الإفاضة المذكورة في قوله تعالى: {فإذا أفضتم من عرفات} [البقرة: 198] وأن العطف بثم للعودة إلى الكلام على تلك الإفاضة.
فالمقصود من الأمر هو متعلق {أفيضوا} أي قوله: {من حيث أفاض الناس} إشارة إلى عرفات فيكون متضمنًا الأمر بالوقوف بعرفة لا بغيرها إبطالًا لعمل قريش الذين كانوا يقفون يوم الحج الأكبر على قُزَح المسمى بجمع وبالمشعر الحرام فهو من المزدلفة وكان سائر العرب وغيرهم يقف بعرفات فيكون المراد بالناس في جمهورهم من عدا قريشًا.
عن عائشة أنها قالت: كانت قريش ومن دَان دينها يقفون بيوم عرفة في المزدلفة وكانوا يسمون الحمس وكان سائر العرب يقفون بعرفة فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} اه فالمخاطب بقوله: {أفيضوا} جميع المسلمين والمراد بالناس عموم الناس يعني من عدا قريشًا ومن كان من الحمس الذين كانوا يفيضون من المزدلفة وهم قريش ومن ولدوا وكنانة وأحلافهم.
وقيل: المراد بقوله: {ثم أفيضوا} الإفاضة من مزدلفة إلى منى، فتكون {ثم} للتراخي والترتيب في الزمن أي بعد أن تذكروا الله عند المشعر الحرام وهي من السنة القديمة من عهد إبراهيم عليه السلام فيما يقال، وكان عليها العرب في الجاهلية.
فقوله: {من حيث أفاض الناس} أي من المكان الذي يفيض منه سائر الناس وهو مزدلفة. وعبر عنه بذلك لأن العرب كلهم يجتمعون في مزدلفة، ولولا ما جاء من الحديث لكان هذا التفسير أظهر لتكون الآية ذكرت الإفاضتين بالصراحة وليناسب قوله بعد: {فإذا قضيتم مناسككم} [البقرة: 200]. اهـ.
وقد رجح القرطبى القول الأول أيضا فقال:
والصحيح في تأويل هذه الآية من القولين القول الأوّل. روى الترمذيّ عن عائشة قالت: كانت قريش ومن كان على دينها وهم الحُمْس يقفون بالمزدلفة يقولون: نحن قَطِين الله، وكان من سواهم يقفون بعرفة؛ فأنزل الله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس}. هذا حديث حسن صحيح. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: الحُمْس هم الذين أنزل الله فيهم: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} قالت: كان الناس يُفيضون من عرفات، وكان الحُمْس يُفيضون من المزدلفة، يقولون: لا نُفيض إلا من الحَرَم؛ فلما نزلت: {أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} رجعوا إلى عرفات. وهذا نصٌّ صريح، ومثله كثير صحيح، فلا معوّل على غيره من الأقوال. والله المستعان. اهـ.